صناعة الأفراد
قبل تشكيل الجمعيات )...(
في دول العالم
الثالث كالمغرب تنتشر جمعيات المجتمع المدني كالفطر. و الغريب في الأمر أن انتشارها
الكثيف و المهول غالبا ما يأخذ منحى سلبيا سرعان
ماينتهي ب"جعجعة بلا طحين". مرد
ذلك حسب رأينا هو غياب أهم لبنات الفكر و
الفعل "الجماعي" )كصفة و إنجاز/تحقيق فعلي و صيرورة طبيعية تتوخى الاستمرارية
(و "الجمعوي"
)كتعاقد و
مرجعية مؤسساتية(
و "المجتمعي" (ككلية
متناسقة و كميثاق أخلاقي سامي يألف بين العمل الجماعي ألإنجازي و الجمعوي التعاقدي). و تتمثل تلك اللبنة المفقودة في الفكر و العمل الجماعي الجمعوي المجتمعي في انعدام
و في أحسن الأحوال هزالة التكوين و البناء و الإعداد (و التصنيع) المعرفي لدى جل الأفراد الممثلين و المنخرطين في تلك الجمعيات.
لتجاوز أزمة
غياب أو هشاشة التكوين و البناء المعرفي لدى أغلب المكونات الجمعوية لا بد من البدء بالصناعة المعرفية /الفكرية
للأفراد في إطار
إستراتيجية و تصور ذو بعد و غاية
يتوخيان الإشراك و الاشتراك و التشارك المنتج و الفعال في
الفعل الجماعي الجمعوي المجتمعي. و لتبرير قولنا
بضرورة صناعة/ بناء الفرد قبل
مباشرة التفكير و الفعل الجمعويين يمكن طرح السؤال التالي: هل يجب أن يلتئم
الأفراد في الجمعيات كصفحات بيضاء أولا (كما يقع غالبا) و
بعدها يستمدون و يتعلمون مبادئ و فلسفة الفكر و العمل الجمعويين و ما قد ينتج عن
ذلك من "هدر بشع للزمن الجمعوي" القاعدي و الإستراتيجي ؟ بالمقابل، ألا يؤدي الإعداد القبلي والصناعة المعرفية للأفراد كمشاريع مستقبلية
للفكر و العمل الجمعويين إلى المباشرة الفعلية الواعدة
للغاية القصوى لكل انخراط أو التئام جمعوي و
المتمثلة في
"العمل/الفعل" و ما ينتج عن ذلك من نتائج
آنية محفزة و أخرى بعدية تكميلية تكاملية؟
تموت المئات من
الجمعيات قبيل و بعيد تأسيسها. كما يختفي صخب و ركز أو تتشوه
ملامح)
و(
توجهات العديد منها أياما أو شهورا على ولادتها لغياب أبيها الشرعي و صمام أمان نجاحها و استمراريّتها: التكوين أو البناء أو "الصناعة المعرفية القبلية
للأفراد" ! أما غالبية تلك الجمعيات "فتتنفس و تعيش موتا
سريريا" بعد سنين طويلة من "السبات الجماعي" hibernation
collective لأفرادها غير المصنعين سلفا وفق صياغة
و قالب جمعوي صحي لتفسح بذلك المجال لتسلل جحافل كبيرة و متسلسلة من الحشرات اللاذعة
و العناكب الهادئة المقيمة و
الرمال الموسمية المتحركة و اليأس المستبد إلى
مقراتها بعدما تشابهت صورتها و كل الطرق المؤدية إليها مع صورة و طرق المقابر المهجورة الحبلى بذكريات
و ألوان و شواهد الوفاة و الانقضاء .
في ظل شيوع و هيمنة
توجه جمعوي يسبق فيه الوجود/الشكل (التأسيس كغاية فقط)
الجوهر / الماهية (الفعل acte و
المردودية rentabilitéو الاستمرارية continuité ) المستمد(ة) من التكوين أو الصناعة الفردية
القبلية للأفراد المشكلين و المنخرطين في جمعية ما، قد يصاب المرء بالذهول و هو يكتشف أن أغلب
رؤساء و ممثلي و منخرطي تلك الجمعيات غير مؤهلين أو مصنعين لتقلد مهمة جسيمة متعلقة
بالتنمية في أبعادها الثقافية و الفكرية و الحقوقية و الفلاحية و
الصناعية و التجارية و الرياضية و الاجتماعية و النفسية من أجل إقلاع وطني مواطن, شامل و
متكامل. بمعنى آخر، ففاقد آليات (أشياء) و أفكار و تصورات "التنمية" لا يعطي (ينتج) التنمية
و لا يفهمها و لا يبدع فيها بل يحول بوادرها إلى "تراجع" و ما ينتج عن ذلك من "هدر
للزمن التنموي" الخاص
بالمجتمع
و الوطن و ما قد يترتب عن ذلك أيضا من "هدر
مضاعف للزمن" أثناء محاولة تدارك أو ترميم أعطاب و شروخ سنوات و عقود من الممارسة
الجمعوية الشكلية العقيمة.
انتفاء الصناعة القبلية للأفراد الحاملين لهم
التنمية الجماعية يبقي
الممارسة الجمعوية في دورة هيرمينوطقية
فارغة
cercle herméneutique vide تعجل بحالة "تدهور" تليها بوادر نكوص
و ردّة و سلبية و "إنورشيا" حتمية/قدرية inertie déterministe/fataliste . فصناعة الأفراد
و تكوينهم القبلي يسلحهم ب "المرجعية /المرجعيات" الضرورية و التي تعتبر مفتاحا و إكسيرا لا
محيد عنه لنجاح و مردودية و استمرارية الفكر و العمل الجمعويين. أما غياب صناعة الأفراد (كفعل جوهري و حتمي/محدد)
قبل تأسيس الجمعيات (كفعل شكلي و وجودي/تحقيقي) يؤدي إلى حالة "لا
مرجعية" يسودها
التخبط و العشوائية و التردد و الاستهلاكية و التآكل و العبثية... عكس حالة المرجعية المستمدة أساسا من الصناعة القبلية للأفراد (كمشاريع جمعوية مستقبلية) و التي
تتيح تنوع و تعدد الرؤى و الابتكار و التنافسية الإيجابية المبدعة و الغنى
الفكري و الثقافي و
العملي التخصصي التكاملي و الانفتاح و التسامح و
التفاعل و الفاعلية و الموسوعية و
التأقلمية
adaptabilité و الاستمرارية
و الإنتاجية و التصور الإستراتيجي البعيد المدى في إطار و في خدمة مرجعية
تنموية جماعية جمعوية مجتمعية صلبة ، شاملة و متكاملة…
حال الجمعيات التنموية في المغرب كنموذج لدول العالم
الثالث
لا يختلف عن حال مؤسسات أخرى عديدة خلقت لحمل "هم"
و "رهان التنمية" على أصعدة
متنوعة
كالبلديات و الجماعات القروية و الأحزاب
السياسية و الهيئات الاقتصادية و النقابية و الاجتماعية و
التعاونيات الحرفية و الوداديات العقارية و المقاولات بكل تخصصاتها. و يبقى تحدي "الصناعة القبلية للأفراد" وفق "تصور
مستقبلي إستراتيجي منهجي و تفاؤلي" مفتاحا حتميا لخلاصها من العشوائية
التدبيرية
و العقم البيروقراطي و التذبذب التقريري و المحدودية الإنتاجية
و العوز التصوراتي و الفقر التخطيطي و
الهشاشة الفكرية و المعرفية و العناد الإستشاراتي. و مثل هذا التحدي
لن تتم مجابهته و تطويعه دون نشر و تحقيق ثقافة "القراءة أولا "la lecture d’abord مع
سبق إصرار على ترصد المعرفة في كل الفضاءات (مقاهي، شوارع، مقرات العمل،
بيوت،مساجد، محلات تجارية، حدائق عمومية، فنادق...) و في كل المناسبات و الفرص و الأوقات (عطل، أعياد مدرسية و
دينية و وطنية و أسفار و استراحة) علاوة على أهمية نشر "دور محاربة الجهل".
يضاف إلى ذلك، ضرورة استغلال و الاستثمار في المؤسسات التعليمية و الأكاديمية الرسمية الموجودة أصلا و المطالبة بإنشاء المزيد منها مع مراعاة "العدالة المجالية" و "النوعية"
و "الجهوية" من حيث طريقة و
معايير توزيعها و
كذلك عن طريق إنشاء مؤسسات و
معاهد تكوين "غير رسمية" موازية و مكتبات و خزانات
كتب
غايتها
تأهيل و تكوين
جميع أفراد المجتمع دون استثناء أو انتظار الحاجة
الطارئة إليهم مادام
بناء الوطن ورشا كبيرا يحتاج إلى كل
فرد من أفراده "قبل الولادة" (قبل
الصناعة و التكوين) و في كل وقت و حين "بعد الولادة" (بعد الصناعة و التكوين) خدمة
لحاضره الحاسم و مستقبله المرهون
بالتدابير العلاجية و الوقائية المتخذة في الحاضر و صيانة
لماضيه المشرق!
حمزة الشافعي
أفانور/ تنغير
11/10/2014
لاتبخلوا بمشاركة الموضوع مع أصدقائكم
0 commentaires:
أترك تعليقك أو ملاحظتك هنا Laissez vos commentaires et vos remarques ici